كلمة العميد الدكتور إسماعيل أحمدي مقدم في مؤتمر الصحوة الإسلامية بجامعة الدفاع الوطني العليا

وفقاً لما أفاد به مركز الاتصالات والعلاقات الدولية، استقبلت جامعة الدفاع الوطني العليا يوم الأربعاء، الموافق 12 دي 1403، نخبةً من المفكرين من الدول التالية: فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، جيبوتي، كينيا، لبنان، الصومال، ساحل العاج، مصر، الأرجنتين، جنوب أفريقيا، النيجر، المغرب، غانا، مالي، السودان، غامبيا، بوركينا فاسو، المكسيك، الهند، إسبانيا، أيرلندا، موريتانيا، النيجر، الجزائر، باكستان، العراق والإكوادور، الذين حلّوا ضيوفاً على الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدعوةٍ من المجمع العالمي للصحوة الإسلامية.
وخلال هذا اللقاء، قدَّم العميد الدكتور إسماعيل أحمدي مقدم محاضرةً تناول فيها التسلسل التاريخي لتشكُّل محور المقاومة، مُسلِّطاً الضوء على جذور التحولات الراهنة وأفول القوة الأمريكية والكيان الصهيوني. ونظراً لأهمية المحتوى المُقدَّم، تم توثيق النص الكامل للمحاضرة على النحو التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا أردنا أن نستعرض أبرز الأحداث التي استحوذت على اهتمام العالم في عام 2024 المنصرم، فإن ثلاثة أخبار تتصدر المشهد:
أولها: انتخاب السيد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وهو حدثٌ جاء خارج كل التوقعات والتنبؤات، وسيُشكل بطبيعة الحال بداية تحولات مهمة على الساحة الدولية. وهذا لا يقتصر على مجرد تغيير رئيس بآخر، بل يتعداه إلى اختلافات سلوكية جوهرية.
ثانيها: الصراع الروسي الأوكراني، الذي مثَّل بؤرة المواجهة بين الشرق والغرب ومنطقة التوسع لحلف الناتو. وقد تمكنت روسيا خلال عام 2024 من تغيير المعادلة الميدانية لصالحها، ويبدو أننا على أعتاب اتفاقيات تتجاوز التوقعات والاستثمارات الأولية.
ثالثها: قضية غزة وأحداث غرب آسيا ومحور المقاومة، التي استقطبت اهتمام شعوب العالم. فرغم أن معركة غزة تدور في رقعة جغرافية صغيرة بين مقاتلي المقاومة الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي) من جهة، والكيان الصهيوني من جهة أخرى، إلا أن تداعياتها وتأثيراتها شملت المنطقة بأسرها ثم العالم أجمع.
ولعل آخر تجلياتها ما نشهده من مواجهات تخوضها المقاومة اليمنية (أنصار الله) في البحر الأحمر، حيث اضطرت أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني للدخول المباشر في المواجهة. وقد أدى ذلك إلى تغييرات جوهرية في مسارات الملاحة البحرية، وتأثرت القوى الصناعية الكبرى المصدِّرة والمستوردة للبضائع بتداعيات حرب غزة، وهو ما نلحظه في البحر العربي والبحر الأحمر. ورغم حشد الغرب لكل إمكاناته، إلا أنه عجز عن وقف هجمات أنصار الله اليمنية. وهذا يؤكد أن تأثير قضية غزة يتجاوز بكثير رقعتها الجغرافية المحدودة.
وخلال الستة عشر شهراً الماضية، كانت قضيتا اليمن وغزة الأكثر تداولاً في المحافل الدولية، سواء في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة أو غيرها من المنتديات الدولية. ولم يقف إلى جانب الكيان الصهيوني سوى أمريكا وبضع دول صغيرة خاضعة للنفوذ الأمريكي، في حين اتخذ حتى الحلفاء الغربيون موقفاً متحفظاً من خلال الامتناع عن التصويت، متجنبين الدعم الكامل للكيان الصهيوني.
أستعرض نظرةً تاريخيةً لنفهم كيف وصلنا إلى هذه المرحلة، إذ لا يمكننا استشراف المستقبل دون فهم عميق للماضي ومنعطفاته وتقييمه بدقة وموضوعية.
فيما يتعلق بلبنان والمقاومة الإسلامية، أودّ الإشارة إلى نقاط مهمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية:
في سبعينيات القرن الماضي، كانت الفصائل والمجموعات الفلسطينية المقاومة تتخذ من الأراضي اللبنانية منطلقاً لعملياتها ضد الكيان الصهيوني. وفي عام 1978، حين كان لبنان غارقاً في حربه الأهلية وفاقداً لسيادته الوطنية، توغل الكيان الصهيوني حتى نهر الليطاني بذريعة إنشاء "حزام أمني". وفي عام 1982، تجاوز الليطاني ووصل إلى بيروت، حيث قام بنزع سلاح المجموعات الفلسطينية وأعلن نهاية المقاومة الفلسطينية بنفي قادتها والراحل ياسر عرفات إلى شمال أفريقيا، معتبراً أن الأمر قد انتهى.
لكن هذه "النهاية" كانت في الواقع بدايةً لمرحلتين: الأولی، ولادة المقاومة الإسلامية وحزب الله، والثانية، نشوء الانتفاضة في الأراضي المحتلة. تشكلت الانتفاضة في أواخر الثمانينيات، وعادت القضية الفلسطينية التي كادت تُنسى إلى الواجهة، وفي عام 1993 تم تشكيل السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو، ما شكّل نوعاً من الاعتراف بالقضية الفلسطينية.
وفي عام 2005، فازت حماس في الانتخابات الداخلية، لكن حكمها اقتصر على غزة ولم يمتد إلى الضفة الغربية. وقد شهدنا سيطرة حماس السياسية والعسكرية على غزة لمدة 20 عاماً تقريباً. خلال هذه الفترة، وقعت حروب متعددة مع الكيان الصهيوني (55 يوماً، 12 يوماً، يوماً واحداً، وأخيراً طوفان الأقصى)، وفي كل مرة كان الكيان يُجبر على الرضوخ لإرادة المقاومة. وفي لبنان، انسحب الكيان في عام 2000، وفي 2006 مُني بهزيمة أمام المقاومة الإسلامية (حزب الله) في حرب الـ33 يوماً.
غير أن اتفاقية أوسلو والسلطة الفلسطينية لم تسر كما كان متوقعاً مع صعود نتنياهو وهزيمة حزب العمل. فالمناطق (ب) التي كان يفترض أن تتحول إلى مناطق (أ)، والمناطق (ج) التي كان يفترض أن تتحول إلى (ب) ثم (أ)، لم يحدث هذا التحول، بل شهدنا مساراً معاكساً حتى تقلصت الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية باستمرار. وبدلاً من انسحاب المستوطنين، تزايدت أعدادهم يوماً بعد يوم. لم يتبقَ سوى جزر محاصرة من جهة، ومن جهة أخرى أقام الكيان الصهيوني جدراناً عاليةً وأنظمة مراقبة إلكترونية. وهكذا تراجع حلم "من النيل إلى الفرات"، كما فشل ما أشار إليه بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" من هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية من المحيط الهندي إلى الأطلسي (من مضيق هرمز إلى جبل طارق). بل أصبح كياناً محاصراً هاجسه الأول هو "الأمن". وفي هذه الأثناء، حالت السياسات التصالحية دون ظهور قدرات المقاومة الحقيقية، وأدت "صفقة القرن" و"اتفاقيات أبراهام" وغيرها من المشاريع إلى التشكيك في مسار النضال، حتى جاء طوفان الأقصى ليقلب المعادلات التي كان يُتوقع أن تسود المنطقة قريباً.
أما التغيرات الأخرى التي شهدناها، فتتعلق بتحطم الصورة النمطية عن الكيان الصهيوني. فقد كان يُعتقد سابقاً أن الصهاينة يعجزون أمام قضية الأسرى ويدفعون أثماناً باهظةً لاستعادتهم، وأنهم لا يتحملون سقوط القتلى، ويدفعون تكاليف باهظة حتى لاستعادة أشلاء جثث جنودهم، وأن قدرتهم الاقتصادية والعسكرية لا تتحمل الحروب طويلة الأمد. لكن ما نشهده اليوم يُظهر انتهاء هذه التصورات القديمة، فها هو الكيان يخوض حربه السادسة عشرة تحت شعار "البقاء"، ولا يُولي اهتماماً كبيراً حتى لمقتل أسراه.
اليوم، أصبح البقاء - وهو أدنى مستويات الطموح - هو الهدف الأسمى للكيان الصهيوني والمحتلين. فرغم توجيههم ضربات قاسية للمقاومة الإسلامية في فلسطين، وتشريد مئات الآلاف، واستشهاد عشرات الآلاف من الأبرياء، إلا أنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم المتمثلة في القضاء على حماس وتحرير أسراهم. وفي النهاية، اضطروا للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع حماس، ما يعني اعترافاً ضمنياً بالمقاومة.
وفي مواجهة حزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان، صحيح أن حزب الله دفع ثمناً باهظاً باستشهاد السيد حسن نصر الله والعديد من قادة الحركة، لكن الكيان الصهيوني فشل في تحقيق هدفه المتمثل في تدمير حزب الله والوصول إلى نهر الليطاني. وبعد 66 يوماً من القتال، اكتفى باحتلال مناطق خالية وقرى قليلة السكان، واضطر لقبول وقف إطلاق النار.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال دور أولئك الذين ضربوا محور المقاومة تحت شعار دعم فلسطين. فما حدث في سوريا ومحاولة عزلها عن محور المقاومة، يُعدّ حدثاً مؤلماً. ودون الخوض في طبيعة نظام البعث ومشكلاته، نرى من منظور المقاومة الإسلامية أن قطع ذراع المقاومة، كان أحد الأهداف التي سعى إليها البعض باسم دعم الشعب الفلسطيني والمسلمين، في الوقت الذي كان فيه حزب الله وحماس في خضم المعركة.
ورغم الضربة التي تلقتها المقاومة الإسلامية، ورغم الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان اليوم، إلا أن حزب الله - الذي انتصر في حرب 1996 باستخدام أسلحة من السوق السوداء اللبنانية دون ارتباط تسليحي مع أي دولة، وبصواريخ كاتيوشا صدئة ومهترئة اشتراها من المهربين - لا يزال قادراً على مواصلة المقاومة.
وفي الختام، نلقي نظرةً عالميةً على الموضوع. فخلال العقود الأربعة الماضية، شهدت المقاومة الإسلامية ومنطقتنا تحولات وحروباً كثيرةً، تزامنت مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي وبداية الأحادية القطبية الأمريكية وغزو العراق وأفغانستان بعد أحداث سبتمبر في 2002-2003. واليوم، بعد 20 عاماً، نشهد نهاية الأحادية القطبية الأمريكية. فلم تعد أمريكا حاكمة العالم ومديرته. وحصول الكيان الصهيوني وأمريكا على 10-12 صوتاً فقط من نحو 200 دولة في الجمعية العامة، يمثّل أدنى مستويات القوة الناعمة الأمريكية في تاريخها، وهذا يعني أفول قوة أميرکا الناعمة في تاريخها.
إن هزيمة الجبهة الغربية بأكملها أمام روسيا وبعض الدول الصغيرة المتحالفة معها في الساحة الأوكرانية، لهو دليل على هذا التحول. وكما أعلن إيلون ماسك، فإن أوكرانيا أصبحت مركزاً لسارقي الدولارات الأمريكية وسوقاً للفساد والمهربين، دون أي منفعة لأمريكا. وهذا اعتراف متأخر بهزيمة الغرب الذي كان يظن قبل عامين أنه سينتصر في هذه المعركة. والأكثر هزيمةً هي أوروبا التي فقدت أمنها الطاقوي والعسكري معاً.
واليوم، يطالب ترامب برفع أسعار الطاقة المصدَّرة واحتكار تصدير الغاز لأوروبا، بل هدّد مؤخراً برفع التعرفة الجمركية على واردات أوروبا بنسبة 20% إذا لم تشترِ الغاز الأمريكي بسعر أعلى.
أما ساحة غزة، فلم تعد مجرد صراع بين الكيان الصهيوني وحماس، بل امتد تأثيرها إلى العالم بأسره. والتغيرات السلوكية والعقائدية للصهاينة التي نراها اليوم، والتي تختلف كثيراً عن تصوراتنا التاريخية عنهم، سببها الدعم الغربي المطلق الذي لا يريد هزيمةً ثانيةً بعد أوكرانيا.
أوروبا لا تريد تحمل هزيمة ثانية، وحتى إن لم تنتصر، فإنها تحاول خلق صورة النصر لنفسها وللصهاينة من خلال روايات مزيفة. وحتى لو انتهت الحرب اليوم، فإن الصهاينة في وضع أسوأ بكثير مما كانوا عليه قبل طوفان الأقصى: أعداء أكثر إصراراً وجرحاً، واقتصاد وسياسة أكثر انهياراً في الداخل. وأخيراً، اعترف العالم كله، حتى الأمريكيون، بضرورة إقامة دولتين.
اليوم، المعارض الوحيد لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولو على حدود 1967، هم الصهاينة والمتطرفون منهم. مع فارق أن الولايات المتحدة تقول إن على الإسرائيليين أن يقتنعوا بهذا المشروع ويقبلوه، وهذا نوع من النفاق والخداع.
ومع تشكُّل تحالفات مثل بريكس وشنغهاي، نجد حتى شخصاً مثل ترامب يعترف بأن العقوبات الأمريكية أدت إلى تقويض مصداقية الدولار وتشكيل هذه التحالفات. فالعقوبات اليوم لم تعد تستهدف الدول المعاقَبة فحسب، بل أصبحت تتحدى السيادة الأمريكية نفسها.
من الواضح تماماً أن مركز القوة ينتقل ببطء من الغرب إلى الشرق بعد قرون، والكيان الصهيوني هو اليوم أهم ممثل للمعسكر الغربي في منطقة الشرق والشرق الأوسط. حتى حلفاؤنا وجيراننا الجنوبيون أدركوا هذا الواقع وبدأوا في تنويع سياساتهم الخارجية، فلم يشاركوا في العقوبات ضد روسيا في حرب أوكرانيا، ولم يقللوا علاقاتهم الاقتصادية مع الصين والقوى الشرقية بل زادوها.
أشكر جميع الحضور الكرام، وأتمنى لهم التوفيق والنجاح، وفوق كل شيء، أتمنى النصر القريب والعاجل للمقاومة الإسلامية في المنطقة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليقكم :